سبحان الخالق المصور
يعتقد البعض أن البكاء بالنسبة للرجل إشارة إلى ضعفه ، لهذا فالرجل أقل بكاء ، وقد أيَّد ذلك بعض العلماء ، إلا أنهم وجدوا حديثاً أن هرمون " البرولكتينProlactin " وهى المادة الضرورية فى تكوين الدموع موجودة بنسبة كبيرة فى المرأة عنها فى الرجل .
وهذه الحقيقة توضِّح أن المرأة لديها قابلية طبيعية للبكاء أكثر من الرجل … ولعل السؤال السابق يجر سؤالاً آخر ربما يلقى لنا الضوء على حقيقة أخرى … وهذا السؤال هو : لماذا يميل الرجل إلى عدم البكاء ؟
إذا تسللنا إلى أعماق الرجل نراه يجد صعوبة كبيرة فى التحدث أو التعبير عن مشاعره الدفينة وأسباب ذلك كثيرة … فالبعض تعلم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنه لا يليق بالرجل أن يعبر عن مشاعره علانية وبخاصة مشاعر الألم حيث يعتبر ذلك ليس من الرجولة .
كذلك فهناك مجتمعات لا تحترم الشخص الذى يبكى وتُعِّلم أبناءها منذ الصغر أن البكاء للأطفال والضعفاء فقط . وعلى عكس ذلك فهناك مجتمعات أخرى تعبِّر عن انفعالاتها بشكل ملحوظ ولا تستطيع السيطرة على مشاعرها أو التحكم فى دموعها .
ويعتقد البعض الآخر أن التعبير عن الألم يُظهر نقص الإيمان بالله تعالى . وهذا اعتقاد خاطئ لأنه على العكس والنقيض من ذلك … فالبكاء عند سماع الموعظة أو عند التأثر بموقف معين هو صميم الإيمان بالله تعالى … يقول الحق سبحانه وتعالى ) تولوا وأعينهم تفيض من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون( البقرة آية 92 . ويقول جل شأنه فى سورة مريم : آية (58) ) إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سُجدا وبُكياً (… كذلك فهناك الحديث المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم عندما حزن وبكى على فقدان ابنه إبراهيم … فقال " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون وإنا لله وإنا إليه راجعون . "
فعندما يغمر ( الرجل ) الحزن والأسى فإنه لا يعرف كيف يُعِّبر عن مشاعره بطريقة إيجابية وقد يتمركز حول ذاته ، وقد ينغمس فى عادات معتقداً أنها يمكن أن تُبَّدل أحزانه ، وقد يفقد اهتمامه بالعمل ببعض المسئوليات التى يقوم بها .
ابك بدون خجل
الدموع هى إهداء النفس للنفس ، وعندما تبكى بدون خجل فقد وصلت إلى قمة النضج النفسى والذهنى … فالدموع البشرية تروى النفس وتغذيها … ويفرز الإنسان العادى بمعدل ثابت حوالى نصف لتر من الدموع فى العام أى بمقدار 1.5 سم مكعب فى اليوم .
مكونات الدموع :
وأنت – عزيزى القارئ – إذا حلَّلت الدموع هذا السائل فإنك ستجد مكونات راقية جداً هى : الأكسجين والصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم والماغنسيوم والأمونيا والآزوت وفيتامين ب 12 وفيتامين (ج) والأحماض الأمينية والحديد والنحاس والزنك والمنغنيز والكلورين والفسفور والبيكروبونات وحمض البوليك والإنزيمات وستون نوعاً من البروتينات .
· ويؤلف الماء 98 – 99% من السائل الدمعى ، أما التوتر السطحى فيبلغ 0.6 – 0.7 من توتر الماء السطحى والمشعر الانكسارى 1.337 .
· وتوتر الدمع يماثل توتر البلازما الدموية والضغط الحلولى فيها 0.9% من كلور الصوديوم عندما تكون العين مغلقة ، 1% عندما تكون العين مفتوحة لذلك تتألم العين إذا وضعت فيها محاليل تزيد أو تنقص فى الضغط الحلولى عن الدمع
· ولهذا السبب فعلى مصانع الأدوية أن تراعى دقة الضغط الحلولى فى الفلزات والمراهم العينية
· أما البوتاسيوم فيزيد فى الدمع أضعافاً عما فى مصل الدم
· والكلور يزيد فى الدمع قليلاً جداً عن سبته فى مصل الدم
· ويميل الدمع قليلاً نحو القلوية .
هذه المكونات تزداد تعقيداً عند ملامستها للأغشية المخاطية فى القناة الدمعية فيضاف إليها الدهنيات والسكريات والأحماض الأمينية ، كذلك الإفرازات الدهنية الغنية بالكولسترول وثلاثى الجلسرين … وكل هذه الإفرازات تغذى العين بأكملها وتحميها من الالتهابات عند البكاء .
وظائف الدموع :
وللدموع عدة وظائف منها ,غسيل العين من أية أتربة أو ميكروبات يمكن
أن تصل الى الجزء الأمامي من العين وهي مهمة جدا لتغذية القرنية وبياض العين ,علما بأن القرنية هي العضو الوحيد في الجسم الذي لا يحتوي على أوعية دموية لأنه شفاف لذلك فهو يعتمد في تغذيته على السوائل المحيطة به ,المتمثلة في الدموع ,واذا قل افراز الدموع أو جفت لأي سبب فان ذلك يسبب مشاكل للقرنية ,مما يؤدي للاصابة بجفاف العيون وهو ما يعتبر حالة مرضية ,يجب معالجتها بالاستعانة بالدموع الصناعية ,المتمثلة في صورة القطرة وتستخدم حسب الحالة .
الوظيفة البصرية : تكاد تكون من أهم وظائف الدمع إذ تحافظ الدموع على ألق القرنية ، وتسد الثغور الموجودة بين خلايا السطح القرني الظهارى ، فيُسوي ويمهد بطلائه سطح القرنية لتقوم بوظيفتها البصرية خير قيام .
كما أن للدموع أهمية كبيرة في عملية انكسار الضوء وحدة الابصار فالذي يصاب بجفاف الدموع او قلتها كثيرا مما يؤثر ذلك على قوة ابصاره
وظيفة دفاعية وقائية ، فبواسطة المواد التى يحتويها وخاصة الليزوزيم أو الخمائر الحالّة يستطيع إذابة وتخريب جدر الكثير من الجراثيم فلا تعود قادرة على الغزو والاستفحال والتكاثر . فتبقى العين سليمة صحيحة رغم تعرضها للجراثيم والعصويات الضارة الموجودة بكثرة فى الهواء ، لذلك فالعين منيعة على الغزو الجرثومي، بمقدار كفاءة المواد الدمعية الحالة للخمائر فإذا قصر الدمع واضطرب تركيبه لأمر ما سهل على العضويات المؤذية غزو العين وإحداث الالتهابات والتخريب بها، وقد أخذ العلماء يجرون التجارب الخصبة على مادة الليزوزيم الدمعي قبل البدء بتطبيق أى عقار عيني جديد .
وظيفة مرطبة ، فهى سقاء للعين وطلاء ضروري لأن الجفاف أذى وبلاء فطالما بقيت العين رطبة ، كانت خلاياها السطحية سليمة صحيحة ، فإذا ما جفت إنعدم البريق منها فتنكمش الخلايا وتتليف ، وتغزوها العروق الدموية ويتجلد سطحها ، ولتنظيم توزيع الدمع على سطح العين كلما جفت طبقة الدمع التى تطليه خلقت عملية الرمش ، التى تحدث طوعياً ولا إراديا بمعدل 12.5 مرة فى الدقيقة (فى المتوسط ) ويدوم إغلاق العين فيها 0.3 من الثانية فى كل رمشة عين ، فلو فتح جفنا العين قسريا وامتنع الرمش مدة شعرت العين بالجفاف وبألم حارق وواخز ، وربما يحدث بعد ذلك دماع انعكاسي فينهمر الدمع. ولو فُحص سطح العين أثناء ذلك لوجد أن فتح العين القسري مدة نصف دقيقة كاف لإحداث بقع جافة على سطح القرنية خالية من طبقة الدمع التى سبق الحديث عنها. وقد لوحظ أن بقع الجفاف تتشكل بسرعة أكثر إذا كانت العين قد عانت سابقاً عملاً جراحياً من استئصال السداد أو مكافحة داء الزرق (الجلوكوما) .
وظيفة طارحة للفضلات ، فيما ينتج عن مخلفات استلاب سطح ولحمة القرنية من الماء وثاني أكسيد الكربون وتوسف الخلايا الميتة وما يفيض عن المواد المخاطية والمفرزات الدهنية يجرفها الدمع وينقلها إلى زاوية العين الأنسية حيث تُضخ فى مجاري الدمع إلى الأنف . وهذا ما يحدث بالنسبة للقطاعات الهوائية والغازات وجزيئات الغبار التى لا تحس بها القرنية كأجسام غريبة فتجرف بواسطة الدمع على سطح العين الأمامي.
وظيفة غذائية ، بالرغم من عدم كبر أهميته كطريق غذائي فإنه يحمل بعض المواد المغذية للغشاء الظهارى فى العين ، والأهم من ذلك هو أن الجزء الأكبر من مادة الأوكسجين تأتى للقرنية من أوكسجين الجو الذى يحل فى الدمع كما فى النوم العميق لساعات أو أيام .
وظيفة تزليج وطلاء ، فلولا الدموع لما أمكن تثبيت العدسات اللاصقة إذ تتيح درجة تحمل العدسات اللاصقة ونجاح استعمالها درجة القوة المزلجة فى الدمع. إذن فالدموع تهب الرطوبة الكافية والطلاء الواقي والملوسة الضرورية للقرنية، وتنقل للقرنية أوكسجين الجو الضروري لغذائها وتطرح فضلات النسج السطحية فى العين . وهى خط الدفاع الأول فى العين ضد غزو الجراثيم والعضويات المؤذية ، تغسل العين مما يعتريها من الشوائب وتنهمر بشدة لتجريف كل جسم غريب متطفل ، كل ذلك حفاظاً على ألق العين ودعماً لوظيفة البصر .
كلمة أخيرة
وقبل أن أنهى حديثى عن البكاء معك – عزيزى القارئ – أرى أن أتحدث معك فى نبذة مختصرة عن فوائد البكاء … يقول الأديب الإنجليزى ( ريتشارد ديكنز ) : " إن البكاء يُوسع الرئة ويغسل الملامح ويُدرب العيون وغالباً ما يُهدىء المزاج فإبك كما تريد " لأنك – أولاً وقبل كل شيء –إنسان له أحاسيس ومشاعر فعبر عن نفسك وانفعالاتك وأطلق العنان لدموعك لتغسل همومك وأحزانك ، ولكى تعيد الراحة إلى نفسك والبسمة إلى حياتك .
فالبكاء أفضل علاج للأعصاب المتوترة ، يُنقد من الكبت الذى يعانيه إنسان العصر الحديث ويُفِّرغ الشحنة التى يسببها الإرهاق والتعب ، فالبكاء صحة … والدموع تغسل النفس ، وللبكاء فائدة عظيمة فى الترويح عن الإنسان .
والإنسان – رجلاً كان أو امرأة – مخلوق وهبه الله الدموع ، وفى انسياب الدموع تفريغ للشحنات السامة التى تُحدثها التوترات العاطفية ، وفى حبسها وكبتها تسمم بطيء لصاحبها … كما أن بالسائل الدمعى إنزيم خاص يقضى على الميكروبات التى تدخل فى العين فيحميها .
فقد أسفرت التجارب التى قام بها عدد من العلماء عن ظهور علم جدد هو " علم الدموع " الذى أنعقد أول مؤتمر طبى له عام 1985 م بالولايات المتحدة تحت شعار : " ابك تعش أكثر " حيث دعا المؤتمر إلى أن يصبح تحليل الدموع من التحاليل الطبية الشائعة مثل تحليل الدم وتحليل البول لأن نتائجه تقدم للطبيب معلومات وافية عن حالة الجسم .
هذا وقد أكد آخر الأبحاث التى أجرتها جامعة " ميتسونا " … أن الدموع هى أفضل طريقة للتخلص من المواد الكيماوية المصاحبة للتوتر النفسى والقلق التى يفرزها الجسم فى أوقات الحزن والغضب .
كما ثبت أن البكاء يزيد من عدد ضربات القلب وهو فى حد ذاته يُعد تمريناً مفيداً لعضلات الصدر والكتفين والحجاب الحاجز … وعند الانتهاء من البكاء يعود القلب إلى حالته الطبيعية وتسترخي عضلات الصدر .
فابك – عزيزي القارئ – كما تريد - ابك بدون خجل
ففى البكاء شفاء وعلاج لكثير من الأمراض . أين بكاء الخلوة من بكاء الجلوة ؟ وأين بكاء العُبَّاد الخاشعين من بكاء العشاق المحبين ؟ أين الثرى من الثريا ؟ مع تلاوة كل آية دمعة، ومع كل دعوة دمعة، ومع كل سجدة دمعة، دموع غزيرة لكنها عزيزة .
إنه بكاء التلاوات، وبكاء الصلوات { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ الإسراء:107-109] ، ومثل هذا البكاء بكاء قوة لا ضعف، وبكاء عز لا ذل، إنه نعمة من الله، وقربة إلى الله، وسمة لصفوة خلق الله { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم:58 ] .
إنه بكاء التعلّق بطاعة الله ، والشوق إلى لقاء الله، والحب العارم لنصر دين الله { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة:92
د. محمد السقا عيد
استشاري طب و جراحة العيون
عضو الجمعية الرمدية المصري