بسم الله الرحمن الرحيم
امتدت إلى عين الإنسان فجعلتها فى علبة عظمية قوية متينة حتى لا تتعرض العين إلى الفساد ثم ظللتها بالرموش لتعكس الرموش أشعة الشمس عن العين حتى لا ُتؤذى ثم أحاطت العين بالأهداب حتى لا يتساقط العرق إلى داخل العين فتتلف، يد من؟
يد من التى خلقت وجعلت ماء العين مالحاً ألا وهو الدمع حتى تقتل الميكروبات التى تتسرب إليها من جديد؟ يد من التى جعلت ماء الأنف حامضا لتتعلق به الأتربة والميكروبات فلا تؤذى داخل الإنسان؟ يد من التى خلقت أذن الإنسان بهذا الجمال والإبداع والإتقان، وجعلت ماء الأذن مرا حتى لا تتسرب الحشرات إلى أذنك يا بن آدم وأنت نائم؟ يد من التى خلقت الفم بهذا الجمال والإبداع وجعلت ماء الفم حلوا حتى يتذوق الإنسان الطيب من الخبيث والطيب من الحار؟ يد من التى امتدت إلى كوز الذرة فرصت عليه هذه الحبات اللؤلؤية بهذا الإتقان والجمال والإبداع؟ يد من التى امتدت إلى سنبلة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة الحصينة ومكنتها وحصتنها بشوك حتى لا تكون حبة القمح داخل الغلفة غذاء للطيور؟ وقد قدر الملك أن تكون غذاء لك أيها
الإنسان الجحود؟
والله لو أذن الله لحبة القمح أن تتكلم وأنصت إليها المخلصون لاستمعوا إلى حبيبات دقيقها داخل الأغلفة تقول: سبحان من جعلنى طعاماً لفلان أبن فلان، يد من التى امتدت إلى الماء العذب الفرات وإلى الملح الأجاج فجعلت بينهما برزخا وحجرا محجورا؟ يد من التى خلقتك أيها الإنسان وجعلت فى حلقك فى مكان يسمى البلعوم بوابة منيعة حصنية تسمى هذه البوابة بلسان المزمار، هذا اللسان لو تعطل
عن وظيفته لهلكت أيها الإنسان الجحود ، فوظيفة هذه البوابة أنها تسد القصبة الهوائية عند البلع وتسد البلعوم عند التنفس ولو أخطأ هذا العضو
لسقطت جرعة ماء أو لقمة صغيرة إلى مجرى التنفس ولو أخطأ هذا العضو
لسقطت جرعة ماء أو قلمة صغيرة إلى مجرى التنفس لهلكت أيها الإنسان المغرور؟ يد من التى خلقت هذا الكون كله بما فيه من جماد وجمال؟.
لله فى الآفاق آيات لعل
ولعل ما فى النفس من آياته
الكون مشحون بأسرار إذا ما
قل للطبيب تخطفته يد الردى
قل للمريض نجا وعوفى بعد ما
قل للصحيح يموت لا من علة
بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام
بل سائل البصير كان يحذر حفرة
وسل الجنين يعيش معزولا بلا
وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء
وإذ ترى الثعبان ينفث سمه
واسأله كيف تعيش يا ثعبان
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
بل سل اللبن المصفى من بين
وإذا رأيت النبت فى الصحراء
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى
وإذا رأيت البدر يسرى ناضرا
وإذا رأيت النار شب لهيبها
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا
وإذا رأيت النار شب لهيبها
أقلها هو ما إلأيه هداك
عجب عجاب لو ترى عيناك
حاولت تفسيرا لها أع
يا شافى الأمراض من أرداك
عجزت فنون الطب من عافاك
من يا صحيح بالمنايا دهاك
بلا اصطدم من يا أعمى يقود خطاك
فهوى بها من ذا الذى أهواك
راع ومرعى من ذا الذى يرعاك
لدى الولادة ما الذى أبكاك
فسله من يا ثعبان بالسموم حشاك
أو تحيا وهذا السم بيملأ فاك
شهدا وقل للشهد من حلاك
فرث ودم من ذا الذى صفاك
يربو وحده فاسأله من أرباك
فاسأله من يا نخل شق نواك
أنواره فاسأله من أسراك
فاسأل لهيب النار من أوراك
قمم السحاب فسله من أرساك
فاسأل لهيب النار من أوراك
إن هذا الأله، ألا يستحق، ألا يستحق أن يعبد؟ ألا يستحق هذا الإله العظيم أن يعبد؟ والله إن الحلق ليجف وإن الفؤاد ليتمزق، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء من الحليم الكريم الذى خلق لنا كل هذا ونحن نجحده، ونحن لا نفرده بالعبادة والطاعة والتوحيد، هذا الإله العظيم ألا يستحق أ، يعبد؟ ألا يستحق أن يوحد؟ ألا يستحق أن يطاع؟ ألا يستحق أن يمتثل أمره؟ ألا يستحق أن يجتنب نهيه؟ ألا يستحق أن نقف عند حدوده؟ ألا يستحق أن نطيع رسوله ؟ ألا يستحق هذا الإله العظيم
أن يعبد؟
لماذا نعبد الله؟ لأن العبادة حق الله علينا ثم لماذا نعبد الله؟ لماذا؟ لأن العبادة غذاء لأرواحنا، فبدونها سنموت، بدون العبادة سنموت، كما مات أهل الجسد الذين قتلوا الروح قتلا، ماتوا وهم يتحركون بين الناس، إن الإنسان جسد وروح، ومستحيل أن يعيش الإنسان حياة طيبة سعيدة بالبدن دون الروح.
وأنتم تعلمون أن الغرب قد أعطى البدن كل ما يشتهيه من طعام وشراب وشهوات ونساء وملذات وعلم وتكنولوجيا إلى آخره، أعطى الغرب البدن كل ما يشتهيه البدن، وبقيت الروح فى أعماق البدن، تصرخ تبحث عن دواء وغذاء فوقف الغرب أمام الروح عاجزاً لا يملك شيئاً، لأن الروح لا توزن بالجرام ولا تقاس الروح بالترمومتر الزئبقى، ولا توضع الروح فى بوتقة التجارب فى معمل كيمياء، أو فى معمل فيزياء، لذا وقف الغرب عاجزاً أمام الروح، إذ لا يعلم دواء الروح وغذاء الروح إلا خالق الروح جلا وعلا : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء .
فوقف الغرب عاجزاً أمام الروح، يعيش فى ضنك. نعم: ونحن نتحدى من ينكر ذلك، يعيش الغربيون فى ضنك وشقاء، لماذا؟ لأنهم أعطوا البدن كل شئ وكل ما يشتهيه وبقيت الروح لم تأخذ شيئاً على الإطلاق، هى تنادى فى أعماق البدن تريد دواءها، تريد غذاءها تريد شرابها ودواءها وغذاءها وشرابها فى منهج خالقها وربها، وإن انتشار عيادات الطب النفسى وحالات الانتحار الجماعى والفردى فى الشرق والغرب لمن أعظم الأدلة العملية على ما يعانيه الغرب فى الجانب الروحى من قلق وشك وضنك واضطراب.
لا يمكن يا إخوة لطائر جبار أن يحلق فى الفضاء بجناح واحد، ولو نجح فى ذلك لفترة وإن طالت حتماً سيسقط لينكسر جناحة الأخر، فالإنسان يعيش بين هذين الجناحين، بين جناح الروح وجناح البدن، بل إن الروح هى الأصل؛ لأن الروح هى التى تحمل البدن.
سئل الشافعى- - يوما: هل الروح هى التى تحمل البدن أم البدن هو الذى يحمل الروح؟ قال: لا بل إن الروح هى التى تحمل البدن بدليل أن الروح إن فارقت البدن وخرجت منه، وقع البدن جثة هامدة لا قيمة له إن لم يدفن فاح عفته ونتته، فنحن نعبد الله؛ لأن العبادة غذاء الروح، ومن عرف الله أحبه وشعرت روحه بالسعادة بل وشعر بدنه بالسعادة، لا يشعر المسلم بالأنس والسعادة إلا فى رحاب الله وفى ذكر الله وفى الصلوات لله، وفى طاعة الله، وفى السجود بين يدى الله قمة السعادة للمسلم من عرف الله أحبه الله.
قال أحد السلف: مساكين والله أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال حب الله والأنس به، حب الله والأنس به، فنحن نعبد الله؛ لأن العبادة غذاء للروح.
رابعاً: نعبد الله طمعا فى جنته وخوفا من ناره:
وقد قال بعض المتصوفة إن عبادة الله طمعاً فى جنته وخوفا من ناره إنما شأن أجير السوء الذى إن أخذ الأجرة عمل وإن لم يأخذ الأجرة لم يعمل، وقد رد علماؤنا على هذا القول فقالوا: إن أعرف الناس بالله هم الأنبياء والرسل، ومع ذلك فقد عبد الأنبياء والرسل ربهم جل وعلا وسألوه الجنة واستعاذوا به من النار، فهذا خليل الله إبراهيم: {وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (85 ، 87) سورة الشعراء . يسأل الله الجنة ويستعيذ بالله من خزى الآخرة.
وهذا سيد الموحدين وقدوة المحققين محمد بن عبد الله يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار بل ويأمر أمته فى كم هائل من الأحاديث الصحيحة أن يسألوا الله الجنة، وأن يستعيذوا به من النار.
وفى الحديث الجليل الجميل الرقيق الذى رواه أحمد والترمذى والبيهقى وابن حبان وأبو داود وغيرهم، وصححه شيخنا الألبانى فى صحيح الجامع من حديث أبى هريرة أن النبى سأل يوما صحابيا من أصحابه: " ماذا تقول فى الصلاة؟"- أى : ماذا تدعو أى: بماذا تدعو الله جل وعلا- فقال الصحابى: والله يا رسول الله إنى أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فإنى لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ- الدعوات الجميلة التى تدعو بها أنت ومعاذ أنا لا أحسنها ولا أعرفها، إنما أدعوا الله بدعوتين أقول: اللهم إنى أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار فقال المصطفى : "حولها ندندن أنا ومعاذ"([7])، وفى رواية: " وهل نسأل الله إلا الجنة وأن يعيذنا من النار"([8])
وها هو الإمام ابن القيم بفهمه العالى يزيل هذا الإشكال بين الفريقين فيقول: لا إشكال بين من قال القول الأول وبين من قال القول الثانى، لكن الأمر يحتاج إلى توضيح فيقول: الخطأ من فهم الناس لحقيقة الجنة فهما خاطئا فهو يقول: الجنة مسماها ليس لمجرد الأشجار والأنهار والحور والقصور والذهب والفضة واللبن والخمر والعسل، وإنما مسمى الجنة الحقيقى اسم لدار النعيم المطلق الكامل، وأعلى درجات النعيم هو التمتع بالنظر إلى وجه الله جل وعلا، انظروا إلى الفهم، أصحاب الفريق الأول: إن كنا نعبدك طمعا فى جنتك فاحرمنا منها وإن كنا نعبدك خوفا من نارك فاحرقنا فيها، وإن كنا نعبدك لأنك تستحق أن تعبد فلا تحرمنا من النظر إلى وجهك الكريم.
يقول ابن القيم: نعيم الجنة الحقيقة هو التمتع بانظر إلى وجه الله الكريم وللك قال سبحانه: { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ } (72) سورة التوبة جاءت لفظة الرضوان بصيغة التنكير فى سياق الإثبات أى: أن أى شئ من رضوان الله على عبده أكبر من الجنان وما فيها من نعيم.
ولله در القائل:
قليل منك يكفينى ولكن قليلك لا يقال له قليل
ولذا ثبت فى صحيح مسلم من حديث أنس عن النبى :" ينادى الله على أهل الجنة ويقول: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير فى يديك فيقول الله: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة ونجيتنا من النار فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا"([9])
وفى لفظ: "فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه الله الكريم جل وعلا" أسأل الله أن يرزقنا الفهم والعلم والعمل وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الأحبة الكرام:
أخيراً : بماذا نعبد الله جل وعلا؟
وعنصرنا الرابع بإيجاز شديد من عناصر اللقاء، بماذا نعبد الله جل وعلا؟ وفى كلمات نعبد الله بما شرعه فى قرآنه وعلى لسان نبيه ، نعبد الله بما شرعه فى قرآنه وعلى لسان نبيه ، فيقول ابن تيمية رحمه الله: وجماع الدين أصلان:
الأول: ألا نعبد إلا الله:
الثانى: ألا نعبده إلا بما شرعه على لسان رسول الله ، فيقول: هذان الأصلان هما تحقيق شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً عبده رسوله، فبالشهادة الأولى يعرف المعبود، وبالشهادة الثانية يعرف الطريق الذى يوصل إلى المعبود تبارك وتعالى.
وفى الصحيحين أنه قال:" من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"([10]). فنحن نعبد الله بما
شرعه فى قرآنه وعلى لسان نبيه لذا يجب على كل مسلم أن يسأل العلماء قبل أن يعبد ربه جلا وعلا عن صحة العبادة، وعن هدى المصطفى فى العبادة، فربما كان العبد خالصا مخلصا لله فى عبادته ولكنه يعبد الله بالبدع وحينئذ يرد الله عبادته على رأسه لا يقبلها منه سبحانه وتعالى، وأرجئ الحديث فى العنصر الخامس إلى درس ما بعد الصلاة حتى لا أشق عليكم، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم جميعا اصلح الأعمال.
اللهم ارزقنا الذل والحب إليك، اللهم املأ قلوبنا بحبك، اللهم ارزقنا حبك وحب من أحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، لا تدع لأحد فى هذا الجمع الكريم ذنبا إلا غفرته ولا مريضا إلا شفيته، ولا دينا إلا قضيته ولا ميتا إلا رحمته، ولا عاص بيننا إلا هديته، ولا طائعا إلا ثبته ولا حاجة لنا لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها لنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جميعنا جمعا مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تجعل منا ولا فينا شقيا ولا محروما، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى، اللهم احشرنا فى زمرة الموحدين، اللهم انصر المجاهدين فى كل مكان وأذن فى تحرير الأقصى بعظمتك يا رب العالمين، اللهم نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين أنت وليه ومولاه.
أحبتى فى الله!
هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو وزلل أو نسيان فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
الدعاء....