عن ال***ير بن العوام رضي الله عنه قال : "لما كان يوم أحد أقبلت
امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تُشرف على القتلى، فكره النبي -صل الله عليه
وسلم- أن تراهم، فقال: (المرأة المرأة) ، فتوسمت أنها أمي صفية ، فخرجت
أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، فلدمت في صدري وكانت امرأة
جَلْدَة،
قالت: إليك لا أرض
لك،
فقلت: إن رسول الله -صل الله عليه وسلم- عزم عليك، فوَقَفَت وأخرجت ثوبين
معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله فكفّنوه
فيهما، فجئنا بالثوبين لنكفّن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجلٌ من الأنصار
قتيل قد فُعل به كما فعل بحمزة ، فوجدنا غضاضة وحياءً أن نكفّن حمزة في
ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما
فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفّنّا كل واحد منهما في
الثوب الذي صار له" رواه أحمد .
معاني المفردات
فتوسّمت: تبيّن له أنها صفيّة بالفراسة والنظر.
فلدمت في صدري: أي دفعته بيدها في صدره.
امرأة جلدة: أي امرأة صلبة وقويّة النفس.
غضاضة: الذلة والمنقصة والعيب
تفاصيل الموقف
انجلت
معركة أحد، وفي القلوب انزعاج لا يُحتمل، وفي النفوس جراحٌ لا تندمل، فها
هي الدائرة تدور على المسلمين الذين لم يحقّقوا أسباب النصر بمخالفتهم
لأوامر رسول الله –صل الله عليه وسلم-، فاستحقّوا ما حصل لهم، لكن وَقْع
الهزيمة عليهم أذهلهم عن جراحات أجسادهم، فقد خالط الأرواح شعورٌ بمرارة
الهزيمة، وهجم على الناس داء الحزن والقهر فأضناهم وأثقل كاهلهم
وتشتدّ
النكبة وتعظم المصيبة بمقتل ثُلّة من خيرة أصحاب رسول الله –صل الله عليه
وسلم- وغرّة فرسانه، أولئك النجوم اللوامع التي صاغها الإيمان ورباها نبي
الإسلام طيلة سنوات القهر المكّيّة، من مثل مصعب بن عُمير، وسعد بن
الربيع، وعبدالله بن جحش، وحنظلة بن أبي عامر، وعبدالله بن عمرو بن حرام،
وعمرو بن الجموح، وسيد الشهداء: حمزة بن عبدالمطلب ، رضي الله عنهم أجمعين.
ويحمل
المشهد صورة القتلى وقد تناثروا في ساحة المعركة، والمسلمون وقد تحاملوا
على أنفسهم ليُواروا جثامين الشهداء تحت الثرى، وبينما هم كذلك إذ أقبلت
امرأة تحثّ الخطى من بعيد، حتى كادت من سرعتها أن تصل إلى ساحة المعركة
وتُبصر ما بها من أهوال.
ويلمح
النبي –صل الله عليه وسلم- تلك المرأة وهي مقبلة نحوهم، فيخشى عليه الصلاة
والسلام أن تُصدم بتلك المناظر البشعة التي رسمها القتال بلون الدم وأعبق
أجواءها برائحة الموت، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم ما خُلقت عليه
النساء من رقةٍ في الإحساس وإرهافٍ في الشعور، فلن تحتمل تلك المرأة
مشاهدة ما قام به المشركون من تنكيل بالمسلمين وتمثيلٍ بجثثهم على نحوٍ
يُعبّر عن بربريتهم وهمجيّتهم.
وهنا
تنطلق الصيحة النبويّة: ( المرأة المرأة) وتتلقّفها أُذُنا ال***ير بن
العوام رضي الله عنه الذي كان أقرب الناس إليها، فانطلق كالسهم نحوها
وأدركها قبل أن تصل إلى القتلى، فإذا بها أمّه صفيّة بنت عبدالمطلب رضي
الله عنها، فوقف أمامها ليقطع عنها الطريق ويمنعها من المواصلة
لكن
صفيّة رضي الله عنها كانت بطبيعتها امرأة رابطة الجأش قويّة النفس، فدفعت
ولدها في صدره لتنحّيه جانباً، واستمات الزبير رضي الله عنه في منع والدته
وقال لها: " إن رسول الله -صل الله عليه وسلم- عزم عليك" فلما علمت أنه
أمرٌ نبوي رضخت للأمر، وأخرجت ثوبين كانا بحوزتها، ثم طلبت من ال***ير أن
يجعلهما كفناً لأخيها حمزة رضي الله عنه.
أخذ
ال***ير الثوبين وانطلق بهما إلى النبي –صل الله عليه وسلم- وأصحابه،
وعندما أشرفوا على حمزة رضي الله عنه وجدوا بجانبه أحد الأنصار وقد مثّل
المشركون بجثّته كما مُثّل بأخيه حمزة ، فاستحيوا أن يُكفّنوا حمزة
ويتركوا الأنصاري من غير كفن، فقالوا: " لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب"، فدُفن
كلٌّ منهما بثوبه الذي صار له، والذي سيُبعث عليه يوم القيامة
إضاءات حول الموقف
في
الموقف النبوي بعدٌ تربوي عميق المعنى، شديد الأهميّة، ألا وهو الحديث عن
أثر المشاهد الدمويّة التي تُخلّفها الحروب على نفوس مشاهديها من النساء
والأطفال، خصوصاً إذا احتوت تلك المشاهد والصور على الأطراف المبتورة
والأشلاء الممزقة والمجازر الرهيبة والإبادة الجماعيّة.
ويكمن
الخطر في أن تلك المناظر تعرّض المشاهد لها إلى صدمة نفسيّة شديدة، يشتدّ
أثرها إن كان من الأطفال، وتظهر عليهم في صورة اضطرابات عصبيّة، بحيث تكثر
فيهم الرؤى المخيفة ويتكرّس لديهم الشعور بالخوف والقلق والاكتئاب، فضلاً
عما قد يكتسبه المشاهد من سلوكٍ عدواني في المستقبل.
لذا
نجد من الحكمة النبويّة، أمر النبي –صل الله عليه وسلم- لل***ير بن العوام
رضي الله عنه أن يمنع والدته من مشاهدة قتلى أحد، خوفاً عليها من الأثر
السلبي الذي قد يحدث لها جرّاء المناظر البشعة.
وهذا
يقودنا إلى الحديث عن أمرٍ آخر تُخطئ فيه الجهات الإعلاميّة التي تبثّ تلك
الفواجع والكوارث مما لا يصلح للعرض، فبعيداً عن الأثر السلبي الذي
ذكرناه، فإن في سياسة النشر المتّبعة انتهاكاً واضحاً لحرمة الأموات
والجرحى خصوصاً من المسلمين، إذ الواجب ستر العورات لا انتهاك الخصوصيّات
مهما كانت المبررات، والمطلوب ستر الميت لا نشر صور أشلائه!، حتى لو كان
المقصود من تلك الصور والمشاهدات فضح أفعال المجرمين والقتلة؛ فإن القائم
على أمر الإعلام يمكنه الاختيار والانتقاء، فيُحقق الرسالة الإعلامية
المطلوبة من جهة، ويتجنب الوقوع في المحذور من جهة أخرى.
ويبقى
في الموقف دروسٌ أخرى، منها: بيان صبر صفيّة رضي الله عنها وتجلّدها
بالرغم من قتل أخيها، ثم ظهور سرعة استجابتها عندما علمت عزم رسول الله
–صل الله عليه وسلم- عليها بعدم التقدّم إلى ساحة المعركة، ومن الدروس
كذلك: ظهور مبدأ المساواة في أبهى صوره حينما أخذ الصحابة بمبدأ القرعة
بين عمّ الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أخيه الأنصاري، فلم يؤثروا حمزة
لمكانه من سيد الأوّلين والآخرين، وتلك ثمرةٌ من ثمار التربية النبويّة